حرب غزّة وقفّاز نيتشه | شهادة

لاجئة فلسطينيّة من مخيّم برج البراجنة، تنظر إلى صورة ابنة قريبتها الّتي استشهدت مع أكثر من 70 فردًا من عائلتها في قطاع غزّة | أنور عمرو

 

منذ رحيلي عن غزّة وأنا أشعر بأنّ جسدي يدور حول نفسه في مشرحة الرحلة. في كلّ دورة تتساقط أجزاء منّي لسبب أو لآخر تحت عنوان التأقلم. الأسماء ذابت والشوارع تاهت. صار الحديث عن تلك المدينة يخضع لحظر تجوال تصنعه المسافة والحياة اليوميّة. حياة الغرب تخلق بُعْدًا جديدًا في تجربتي أو قصّتي، سمّها ما شئت.

كرهت غزّة كثيرًا حين عشت فيها. أقسمت ألّا أفسح لها أيّ مساحة في المخيّلة. طويتها مرّات عدّة، وألقيتها في الهامش. أنا من يافا، وانتهى. سافرت كثيرًا، وزرت مطارات مختلفة، ورغم ذلك سكنني هاجس المعبر حرًّا يتنقّل بين كوابيسي وواقعي. وإذا سألني أحدهم: ماذا حملت معك من غزّة؟ أجيب: صوت الطائرة.

 غزّة ألم في الذاكرة، في المخيّلة، واحتلال بحت. بعد سنوات عدّة، ظننتني نقّيت جسدي من كلّ هذا العبث الّذي عايشته، ومضيت في تنقيل مخيّلتي من محطّة إلى أخرى، ومن نجاح لقصص جديدة أصوغها باللغة الّتي أريدها.

ثمّ بدأت حرب غزّة؛ لتنفصل نفسي عنّي، وأعود ستّ سنوات إلى الوراء. الكوابيس وأنا صرنا رفيقين. أعراض اضطراب ما بعد الصدمة بات احتلالًا جديدًا ابتلع كلّ شيء في طريقه. زاد وزني، ظننت أنّ القصص القديمة تثقله. قرّرت إخفاءها جيّدًا في ذرّات الهواء من حولي، وترك صوتي طليقًا لا يستقطب المارّة، فتنفّستها رغم أنفي.

لم أعُد أعرف كيف أدفعني في طريق ما قبل تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023، الّذي أُغْلِق بالكامل لأجل غير معلن.

كرهت غزّة كثيرًا حين عشت فيها. أقسمت ألّا أفسح لها أيّ مساحة في المخيّلة. طويتها مرّات عدّة، وألقيتها في الهامش. أنا من يافا، وانتهى.

في السابع عشر من كانون الأوّل (ديسمبر)، كلّمت أمّي، كانت تبكي بشدّة. الحرب تمنحنا أسبابًا كثيرة للبكاء أحدها الجهل؛ فابنة عمّها نزحت إلى نفس المدينة. ورغم ذلك لم تعرف أمّي بموتها إلّا بعد خمسة أيّام من فقدها. انقطع الاتّصال... هذا... كلّ شيء. 

أين سنكنز الصناديق المكدّسة بالقصص؟ تساءلت أيضًا لِمَ وجب علينا حفظها كلّها إن كانت الحياة خرفة وعديمة المخيّلة؛ فكلّ شيء يعيد نفسه إذن. كما قصّت جدّتي عليّ قصّة النكبة، قصّت أمّي التفاصيل ذاتها، فقط مع بعض الاختلافات الزمنيّة.

لا يزال الاتّصال مقطوعًا. 

ليلة الحادي والثلاثين من كانون الأوّل (ديسمبر)، تحيط بنا أصوات الألعاب الناريّة. أجلس مع أولادي أمام التلفاز، نقلّب صور الجرحى والقتلى، لا نريد التعرّف على أحد. جرت العادة أن يزورنا المشاهير عبر الشاشة إلّا في عالمنا الموازي هذا، المكلومون هم ضيوفنا. لا أريد رؤية أيٍّ ممَّنْ تجمعني علاقة ما بهم. رغم ذلك نَمَتْ بيني وبين سكّان الشاشة المجهولين علاقة لا أستطيع حاليًّا وصفها. أمدّ يدي ألمسهم، أصنع لهم بعض الشاي بالميراميّة ضيافة - صاروا لي أهلًا - أبحث عن أسمائهم، وأدّعي أنّ لي صلة بهم؛ فقط لأنّني سمعت اسم أحدهم من قبل في مكان لا أذكره، وهكذا. مددت يدي لأسلّم على يد وحيدة، وربطتُ حذاء طفل مُلقًى بين الردم.

يراسلني أصدقائي الغربيّون – من عالمهم الموازي –  يدعونني إلى إغلاق التلفاز، وتلقّيتُ دعوة لحضور حفلة رأس السنة!

كيف أشرح لهم أنّني إذا أغلقت التلفاز لحظة فسيُقْتَل أهلي كلّهم، وأنّ روحي محاصرة بالحرب رغم رحيل الجسد عن المنطقة؟

أيقنتُ أنّ متابعتي للأخبار هي «القبّة الحديديّة» الّتي تمنح أهلي مكانًا آمنًا. لا أكذب حين أقول إنّني أصبتُ بذعر حين ركبتُ باصًا ليس فيه تغطية إنترنت لسبب ما، وكتبت:

مدينة عجيبة تبدو فيها الساعة السادسة عشرة كمنتصف ليل

عطل غير مبرّر في إنترنت الباص، يجعل الوقت أشرس

 نوافذ مكمّمة، الفراغ، الوقت وأنا خليط لا يصنع أيّ وجبة 

خمس دقائق مرّت تتمطّى

في الأربع الأخيرة منها، تذكّرتُ الحرب

 العشر اللاحقة، الحرب مجدّدًا

ساعة ونصفًا بلا إنترنت كافية كي تبدأ حرب؟

ثرثرة ركّاب وهميّين تتداول محصّلة القتلى الأخيرة، يحملقون بلكنتي الغريبة

يختفون سريعًا قبل أن أدافع أو أبرّر

 قميصي أزرق وأنا مسالم تمامًا... صرخت

 صوتي الشبحيّ ذاب سريعًا في غيابهم

 ذهب كلّ شيء

كيف يسافر المرء إلى آخر بقاع الأرض حاملًا الحرب في حقيبته؟

 دقيقة أخرى تمرّ، وكلّ هذا العبث يسيطر عليّ

 الهواء البارد فقط يعبر الأبواب، لا ركّاب

السائق يمصمص شفتيه الباردتين، يرطّبهما، ويوزّع نظره عبر طرقات متشابهة...

أنا وسائق تعس الحظّ عالقان في طابور طويل من المحطّات الفارغة.

والكثير من الأفكار عن الموت، وتقلّبات الطقس، ووجبة العشاء الدافئة، في نهاية هذا الهراء المسمّى، يومَ

أدفع نفسي دفعًا للكتابة، لا أملك أيّ رغبة.

فقدتُ كلّ رغبات البشر، شفّافة قاتمة بلا أدنى دوافع.

الأفعال تتحوّل تدريجيًّا إلى لغة أستخدمها متعثّرة في كتابة هذا الهراء.

كيف تكتب نصًّا بلا أفعال أو دوافع؟

 

في أوّل ليلة من عام 2024، كلّمتُ أمّي أخيرًا، هي تبكي مجدّدًا. سألتها عن توفّر الطعام والدواء والماء. أجابتني: "لدينا كلّ شيء". هكذا هنّ الأمّهات، يكذبن لأجلنا. دعت لي كثيرًا وانقطع الاتّصال. 

بيتنا صار ركامًا، كذلك بيت أبي وأماكن كثيرة. رأيتُ فيديوهات مصوّرة لأماكن هي جزء من ذاكرتي، تبًّا! لم أستدلّ على شيء. كيف يسقط من ثقب جيبك كلّ ما تملك دفعة واحدة؟ المثير للغثيان أنّك ترى الجنود الحمقى يلهون في بيوت عليها أسماؤنا. في كلّ مرّة أرى مثل هذا المحتوى، أشمّ رائحة عفن قديمة عمرها يتجاوز التسعين عامًا، ربّما أكثر قليلًا أو أقلّ. معلومة جديدة خرجتُ بها "العبث يورث".

المثير للغثيان أنّك ترى الجنود الحمقى يلهون في بيوت عليها أسماؤنا. في كلّ مرّة أرى مثل هذا المحتوى، أشمّ رائحة عفن قديمة عمرها يتجاوز التسعين عامًا، ربّما أكثر قليلًا أو أقلّ.

 

عند كتابتي مقالي الأوّل، ارتجفتِ الحروف بين يدَيّ. أصابني مرض لا يمتلك طبيبي أيّ علاج له: ’معاداة الساميّة‘. كيف أصرخ كي أطيح بكلّ شيء؟ كيف أبني صرح كلمات يضاهي جزءًا صغيرًا من ألم أهلي غير معادٍ للـ ’سا – توووت-  ميّة؟‘ كيف يدور كلّ شيء في هذا الثبات الأحمق؟ كيف يغيب الكون كاملًا ويمنح الفراغ دور البطولة؟

مدفوعة بالبقاء، أتلفّت حول وحدتي، وأستدعي أصواتًا غريبة، أُنصتُ بوحشة ميّت. على كلّ شيء أن يتّخذ شكلًا لزجًا يدخل ثقوب قناعاتهم المكدّسة. علّمت قلمي آداب الغرب، في كلّ مرّة أكتب مقالًا، أو حللتُ ضيفًا في حوار، ارتديتُ قفّازات نيتشه، وقدّمتُ غضبي في صحن أنيق مذهب.

العيش في واقع موازٍ آخر يشبه الوقوع في الفخّ. قرّرتُ شراء نظّارة نرويجيّة الصنع؛ كي أرى ما يرونه، وأنطلق من هناك نحوي. إنّني أخاف في كلّ مرّة يخرج أولادي إلى المدرسة، أخشى عليهم من القصف، تخيّل أنّ مجرّد ذكر هواجسي وأوجاعي يشعرني بالخيانة. لا أستطيع تجريد فعل الخيانة من فحواه في هذا السياق، كيف أجرؤ على الكتابة عن هواجسي رغم كلّ ما يحدث مع أهلي في غزّة؟ إنّنا نحن الفلسطينيّين جميعًا ملعونون، لكنّ أحدنا لعنته أخفّ وطأة.

أعتذر.

كتبت الشاعرة النرويجيّة جونيفر هوفمو[1] في تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1984، رثاء لصديقتها اليهوديّة الّتي أُحْرِقَتْ حيّة، تقول فيه:

لكنّني على الجانب الآخر

حيث الإنسان ضباب من وحدةٍ وخوف

يا ليتني كنتُ حجرًا

يمكنه احتواء ثقل هذا الفراغ

يا ليتني كنتُ نجمًا

يمكنه شرب ألم هذا الفراغ

لكنّني إنسان ملقًى في دولة منفيّة

الصمت أسمعه يتدفّق

الصمت أسمعه يصرخ

من عالم أعمق كثيرًا من عالمنا هذا.

 

ولأنّ العبثيّة سمة هذا العالم؛ تسابقني أصابعي نحو الأوراق؛ لتكتب في تشرين الثاني (نوفمبر) 2023،  غصّات عارية محترقة للجانب الآخر والبُعْد الآخر لقصّتها؛ حيث إنّنا لخطأ تاريخيّ فُرِضَ علينا الوقوف في هذه الزاوية، ودفع تعويضات لخطيئة غربيّة رُمِّمَتْ بخطيئة ومذبحة لوجودنا، وهكذا أكتب:

كيف أجرؤ على الكتابة عن هواجسي رغم كلّ ما يحدث مع أهلي في غزّة؟ إنّنا نحن الفلسطينيّين جميعًا ملعونون، لكنّ أحدنا لعنته أخفّ وطأة.

هنا، كلّ شيء هادئ، ترتطم بعض الموجات بي. الموجات تحمل الرسائل أو تجرّها؛ رسائل ثقيلة تسير ذهابًا وإيابًا، محنيّة معوجّة تعبر الحدود نحو مكانٍ ما لا تذكره الخريطة، لا يذكره العالم، وحده المرسل يعرفه،

هل علينا معرفة العناوين لاستقبال استغاثة؟

تقول ابنة العامين: "بدّيش الدخّان يفوت بيتنا".

لخلل في الموجة؛ عجزتُ عن إغلاق النافذة في وجه الهواء.

الحرب سيرك؛ يجلس المهرّج في مقعد المتفرّج، وتتغذّى الأسود على الأطفال الزائرة.

أدقّق نصًّا عن طريقة صنع الكعك الهشّ، بينما أختبئ وأطفالي على مسامير أعلى شبّاك المراسلة. "متجاهلين حقيقة أنّنا على بعد مئات الكيلوات من القصف". جلستُ وجهًا إلى وجه أمام الرسالة الجديدة، كانت سمينة محشوّة برسائل أخرى، متجهّمة. قدّمتُ لها النبيذ علّها تتكلّم، لم تفعل. قدّمتُ لها قطعة جبن وخبزًا، تناولتُها بنهم، لم تتكلّم. رقصتُ لها رقصة قرد على السقف. اقتربت منّي، فتحتْ فمها، فوقعتُ في بئرٍ قاتمة. تعتصرني حشوتها...

"بدّيش أموت"، "وقّفوا الحرب"، "أهمّ إشي شنطة المدرسة"، "أنقذت سمكاتي من القصف"، "تسبنيش يامّه"، "ماتوا ولادي".

أبتلعها كلّها، يخرج دخان أسمنتيّ من فمي وأنقاض.

أسعل، تطير الرسالة بفعل الدفع، تذوب بين موجاتها، لا شيء يصل، تنفجر بطّاريّتي، 

أنطفئ.

 


إحالات

[1] FRA EN ANNEN VIRKELIGHET (من واقع آخر)، Gunvor Hofmo (ترجمة الكاتبة).

 


 

وسام المدني

 

 

كاتبة من غزّة، تكتب الشعر والقصّة القصيرة والرواية. أصدرت روايته الأولى «شيزوفرينيا الجسد» عام 2022، وتُرجمت كتاباتها إلى خمس لغات مختلفة، منها النرويجيّة والإيطاليّة. تعمل حاليًّا مسؤولًا عن مشاريع ثقافيّة في «مؤسّسة بوسكرود».